المقامة الزراعية
كتبها الأديب/عبدالمجيد محمد عبدالمجيد
الحمد لله الذي أخرج البذر وربى طفيله، وشق النواة عن طئفة خضراء فصارت خميلة، فتارة هزيلة وتارة دقيلة، فإذا إشتكت الأرض قلة الماء أرسل غيثهُ وسيله، فعم بالنعم الخلائق وأغنى العيله،سبحانه ينفق ويرزق، ويبعث السحاب وفيه البرق يبرق، فينزل منها الغدق والودق،فيروي به الأرض ثم يشق،وينبت النوى ويفلق ، فيورق الغصن وينسق، ويفتح أكمام النبات بقدرته ويفتق،(أفَمَن يَخلُقُ كمن لا يَخلُق)..
والصلاة والسلام على رسوله المزروع حبّ حُبِهِ في قلوب المخبتين السالكين سُبّلَ دينه، القائل: صلى الله علية وسلم ((كنت نبياً وآدم مجندل في طينه.. ))وعلى آله غيوث رياض الندى،وصحبهِ تَرَوَّقَ بهم سماء الهدى..
أما بعد...
خرجتُ ذات يوم أتنزه ،في وديان القرية وهي في موسم الزراعة ،فقادتني القناعة، لمشاهدة الحقول الرائعة، وهزني الشوق وجاش،الى وادي الجراش،فرأيتُ المناظر الخلابة،والحقول الجذابة،والخضرة المتبهرجة ،والجرب المدججة، بالدخن والغرب والذرة الشامية الرفيعة،
فبينما كنت أتجول في تلك العقام،إستنشقتُ ذاك النسيم الذي تفوح منه راحة الطُعم،وإنتعشت بالهواء المُفعم بنكهة الزرع،وتمتعتُ بالجو المعطر بزخات الكرع،والمطوق بسحابة الرجع،فنضرتُ الى القاع،فرأيت التراب مُبّتسماً بشفاه الصدع،وقد أخرج من شفتيهِ أشطأ الزرع، ونبت وقوي وإشتد وزهى وارتفع ، وأسفى وأقفى وقَصَّعَ، وهاجَ وتفيّأَ وزَكا وأشع ، وخضر ونضر وتتابع، وكعبر وأخفرَ ويعفر وتدرع ،وأغضّ وغلُظَ وتنوع، وسنبل وأقمل وأينع، وألْحَمَ ،وإصطلم وتفرع، وانتشر في الوهاد وتربع،وبسط جِيوشه في الوادي وتحصن وتمنع،وبعثر جنوده وتوسع،ووطد جذوره وقيدها بسلاسل السواقي،وشّد الحزمة منه بطينة الوثاقي،
حتى ثبت الزرع سمُوطهُ ،ورتبَ صفوفهُ،وسقلَ سِيوفهُ،
فمن جنوده الدخن رأيته قد آنشق جيبهُ وكشف رأسهُ،وآزرقَ من اللطم خدهُ وتوطن أساسه،وشابت لمتهٌ ،وإرتفعت قإمته،تتزود بأورقة النعم ،وتلوك أغصانه الغنم ،وتنكب على محاصيلة التيوس والخرفان ،وتتلهف لأكل ثماره الظان ،وتتنعم في أكل قصبه النعاج ، وتنصب شوقاً للتنقم حبة الدجاج.
وأما الغرب من أتباع الزرع المقرب،قد بزغت من مشرقها ،وناهيك برونقها،لا قلت عن حسنها، لا غربها ،رشيقة القد ،أسيلة الخد،محمرة الوجنتين، كل شيء فيها زين ،قليلة الحاشية ،وتحب قصبها الماشية. وأما الذرة من سلالة الزرع الزاخرة،ومن حاشيته النادرة،
فنضرت إليها فرأيتها شامخة مُقتطِبة،وأذآنها مُتّرقِبة،وأذرعها مُتّحوطة،وركبها مُحَشِطة،وسيقانها مُفّخطِطة،
وقد سمقت فبسقت،وشهقت فرمقت،ومزقت بأطمار أوراقها،وضربت في الأرض بجذور أصلها ،ونفحت بطعمها نوافجها،ولفحت بقرطها مدارجها،وقد رنت عيون سنابلها ،وآنخت قامة رئسها لقعودها ،ورفعت أكف منعها بجذُوعها،
وقد غلظّ قصبها،وعرضّ ورقها،وتهدلت خضرتها،تلدغ بلسان نضناض،وترفل في ذيل فضفاض ، تُرفرفُ فوق سنابلها الفراش ،وتتلذذ في أكل قصبها القراش ،وتتسوك بقرطها الأبقار ،وتتموص بلعاب طعمها الأثوار ،وتلوص من أكل أوراقها الماعز والأبقار، وتتمضمض بعلفها البعير ، فلما توغلتُ وتعمقتُ وأكثرتُ في هذا الوادي المسير ، والشمسُ قد أقتربت من الهجير .
فبينما كنتُ أطوف ،وأتنقلُ بين تلك الصفوف،سمعتُ زحف السعوف ،وكشكشت الأكمام وقشقشت الأوراق والكنوف ،وقد تقاربت الكتوف ،فأوجست نفسي بالخوف ،فوقفتُ أتمعاً وأشوف ،فرأيتُ الضياع بفرسان النبت مكتظة،والوهاد برماح الزرع ناهضة،والصلوب بجحافل العصود محصنة،وبكماة القروض مبطنة،وقد لبست الغدران دروعاً فضفاضة ،وكشرت العيدان بأنف مُغّتاضة، وآضت الرسع بدموع فياضة،ولبست الأودآن تروس القطب الباهظة،وخرجَ الشجر بثورة مناهِضة ،ورفعت العلوب رآيات المعارضة،وقامت الأشجار لحربي على ساق، وأبرزت شوكتها لدفع أهل الشقاق.لكني لا أختار المبارزة بالسيوف،ما أمكنتُ المجادلة بالحروف،ولا أحبُ الجلوس على طاولة الفئوس،لأقطع هذه الرؤوس،ولم ألجأ الى عصبة الشّرُم،لأوبيد مراعي النعم،
فاخترت التصالح وبادرتُ بالتسامح مع هذه النباتات ،ونفضتُ من ثوبي غبار المكايدات،فكلمتُ الأشجار والنباتات بلغة الإشارات، وتصالحتُ معها وجسدتُ أوصر العلاقات،وذلك من خلال المفاوظات،التي ناقشتُ بها الزرع بضروب الأستعارات..
فقلت : أيها الزرع ما الذي دهاك،وما الذي أغراك ،وقد رأيتُ جيشك في البقاع منتشر،وقصبُك بسيقانهِ الخضر مشمر ،وبورقهِ يتمايل في كر وفر ،وجذرك قد نصب كمائن الحفر ،وسدرك بغسلهِ يتبختر ،وعصدك بأشوكهِ يتذمر ، وقرضك قد رفع أشذابه للخطر ،فأسمع أيها الزرع ولا تغتر أنته وأصلُك النبات وجندك الشجر، فلما تشمخر ،وبكنفك تَنخُر ،فهيا أرفع كتائبك من البر ،يكفي هذا الحذر، فلمه تعاديني ما الأمر ،فها أنا ذا جأتك منكسر ،فلا تتكبر ،فأنته خلقت لمنفعة البشر ،الم تسمع بما أنزل على سيد البشر في قوله: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر))فلما سمع الزرع هذه الدُرر،طّطّأ برأسه امامي ونحسر ، وتأوهَ على ما عمل وتحسر، وإعتذر إلي عما بدر ، فتقدمتُ إليه بالمدح والشكر ،
فقلت: أيها الزرع
ثبت الله جيشك،وحمى جهيشك،ورعى حشيشك، ما أجمل حسنك ! وأبهى غُصنك ! وما أخضر أوراقُك! وما أكرم أعراقُك ! فوالذي زرعك في طيننا ،لأنته حقاً ذخرنا وزادنا ! كيف لا وما فتى حصادك يفي،ورحيقك يشفيي،وعلفك يغني،وعدوك يثني ،وفلاحك يجني، ،ومن ثمارك نصنع الطعام ،وبحبوبك تُبنا الأجسام ،وبأعشابك تُشفا الأسقام ،فمن ذا الذي ينكر خيرك من الأنام ، فالكل يعرف علو قدرك ،منذو نعومة بذرك،فلما أتممتُ هذرمتي،واوهم الزرع صدق كلمتي،أوحى الزرع إلي بإيماض جفنه، وتصالحنا على أن لا أمنع بذنوبي مزنه،وأن أتعهدهُ بالعناية ولا أدع الجفاف يعتري أغصانه، وأن أدعُ له الله سبحانه ،فهو الذي أخرجه بقدرته وتولى زرعه ، وساق العنان إلى حضرته حتى تهدلت ثمائله وقوي فرعه ،ولما حان حصاده وجمعه قال :اَنظُروا إلى ثَمَرِه إذا أثمَرَ ويَنِعه) فرأيته قد ألبّ وأحبّ وأحببّ فقلت :سبحان الذي يجرج الخبّ أنزل من السماء ماء ضمنه العجائبا ،وأخرج منه خضراً يُخرج منه حباً متراكبا ،
فأكملتُ سيري في الوادي الفسيح،فلما وصلتُ السحاسيح ،
رأيتُ النحل يلعثم ثمري الحقول،والطير ينقم ثمار الحقول ،فساقني الفضول الى الصعود الى قمة جحنون،فرأتُ الزرع يتبهرج ملأ العيون فقلت : سبحان الذي قال :أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون))
وبينما أنا ارفل في حلل النضارة ،دهتني المناظرة فنادني في ذلك الحال،لسان الحال،وقال لي يا مشغول البال،خفف الهطع على الرمال،ومسح من عينيك كحل الوحال،فأنته في صوحل ،الوادي الذي كانت تشد إليه الرحال،وتحمل منه الحمال ،وتجمع فيه الغلال،وتحرثهُ الثيران والجمال،
كان هذا الوادي يغذي سكان المنطقة بأكملها،ومستودع خصيب لسكان القرية وأهلها،
حيث كان يزرع فيه بعض الفواكة والخضار،وأنوع الحبوب والثمار ، كالقمح والدخن الذره،وغيرها
كان هذا الوادي في السنين الماضية،روضة أريضة،وخميلة وريفة،وتربة خصيةوريفة،فلما بسطُو في هذا الوادي عنان نظري ،ولم أقضِ منه وطري ،ما برح لسان حالي أن أخذ بأودي، ،وقام يروي ويذكرني أيام الصبا وعهد صغري، في عرصات هذا الوادي ، فأنختُ لقوله نضوي ،وأهدفتُ السمع لما يروي ، فهنالك تمايلت فؤادي ،طرباً بطيب شهودي ،وترنمت بلابل سعودي ،على تحريك عودي ،فيا أيامي عودي ،الى مواسم الخير في هذا الوادي ،هنا مرتع الزارعة ،ومربع الفلاحة ،ومعقل الراحة ،هذا الوادي كانت تغرد فوق محاصيلهِ العصافير ، وتشمخُ في رباهُ المناخير،وتقطفُ من رياضهِ المزاهيز، وتصول وتجول في عرصاته ذوات الحوافير ،وتمر من منافذه السيارات والبوابير ، كان يأمه سكان المنطقة من حجر الى حرير ،ويدخروا في مدافن قريته المحاصيل ،هذا الوادي عبر منه بعض الؤرساء والمسائيل ، وزارهُ الكثير من المشاهير ،فدعوني أحكي عن أيام الخير..
هنا زرعنا أحسن المواسم ،وحرثنا أكثر المتالم،وركبنا فوق المداسم،وبتلنا بالسحوب،وذرأنا الحبوب،وحرينا الصلوب،وملأنا السيوب،وعبرنا السلوب،
وذرأنا البذور والشتائل،وغرسنا الفسائل،وقطفنا السنابل،
وصربنا الزرع من الجرب،وعصبنا العصب،وقطنا القصب،وقطفنا الدخن والغرب ،وبطينا العكب،ورمينا بالعوسب،وجهشنا الجهيش،وحشينا الحشيش،وجشينا الجشيش،ورمينا بالقيش،وبرشنا البرش،وبرقشنا البراقش،وبكرنا بالغبش ،وجلسنا فوق أكوام القشش ،وبنينا العشش ونصبنا العشاءو ، وكعفنا الرزآو ،
وكسكسنا اللوزوز ،وكسرنا الجلموز ،وصربنا الطُعم بالشريم،وقلعنا الجذن بالقداديم،وبتكنا الجلاعيم،وقصينا القلاصيم ورفعنا المشاييم،،وسلخنا العتن،ووريأنا الحجن،ووكرنا الغسل،وبطينا العسال،وقطعنا الرسع،وفرقنا التّبع، وشجفنا الشّجف،ونقدفنا القّلف،ووجفنا الوجف ،وعبرنا من المخلف ، وفتفتنا العّتل،وأخرجنا الوبل،وخلبنا الجِبل،ونقشنا الجوس،وأثرنا النيس،و أقمنا الركائز،وحنجزنا المحاجز،وربطنا المرابط،وختلنا بلمخايط،ورتقنا الجواني ،وملأنا الجواري ،وروحنا الأعلاف ،ونفلنا الزفاف ،وأغلقنا الخلاف ،وعسينا من فوق المزاريب ، ودعسنا الجذور من بعد الصريب ،ومارسنا الشراحة والسئيب والحطيب ، وكربنا المكاريب،ودومنا الدوم من تحت العلوب،ورصعنا الرصع من بين الزروب ،وشوبنا الشوب،وأكلنا الألب،وتصيدنا الجولب،وتابعنا الأرنب،ورابشنا بين الغنم والفرق،وورقنا الورق،ونصبنا للحمام الوشق،وبرشنا المقاقي ،ووقعنا السواقي ،وزودناالصبوح،وفقحنا الفقوح،وقطعنا النبوخ،ولفأنا الشذوب بالمشاعب،وقصعنا سطوح الدور بالرواكب ،وفحسنا بالجرين السبول والبذور،وطحنا بالرحى الحبوب والقشور،وفقللنا حبوب الصين ،ولقطنا بلس التين ،من بعد الدجين،ولبجنا الدخن في الجرين،وقممنا الصومي ، ونبذنا الحمطي،وهزينا الفري.وأدخرنا الدوم ، الى أيام الحسوم.ورعينا المواشي والقراش،وتمتعنا بالرعية أيام البدية،وأكلنا السهية،وقرطنا القلية،ومصينا المضاره المستخرجة من قرطة الذرة ، ونقفنا الصمغ من العصود،و شربنا ماء الدلو المنقح بطعم الشتر،وتنشفنا بالقوة لأكل الفدر،وخشفنا الكسر،وذرأنا بعد العنتر، ومرطنا البذر ،ونتخنا الحشر،وشقينا بالمعول الحجر، وشجرنا الشجر،وبكارنا للعمل بعد صلاة الفجر ،وغلسنا الى وقت الغدر،وإعتنينا بالحقول ،وأغتنمنا المواسم والفصول ،مطرنا بالخريف ،وخيرنا بالصيف ، وصينا بالشتاء ،وعاصرنا الأيام الخصبة الوافرة ،وشاهدنا سيل الكارثه ، وبتلنا بالبتالة والحراثة ،وتعلمنا مهنة الزراعة من أجدادنا الغُر،وأخذنا منه الخِبر ، وتعلمنا هذه الأعمال وحفظنا هذه الأقوال من الشيوبه في خوبر كالذريء والدسيم ، والتليم ، والبتيل والحرور،والتجنيد ، ،والردراد،والملاء،والفقاح ،والحجين الكعاف، والكعيف الجريف،والرعاب ،والعصاب، والسقاي والوراق ،واللواص ، ،والتريش والجهيش والصريب ،والحشيج واللبيج القطيف ، واللسيس والفحيس والنسيف ، والذراية والكيالة ،فأجدادنا هم أصحاب البراعة ،كان أعلم وأحسن منا في مهنة الزارعة، فهموا المواسم ،وعرفوا المعالم ،وقسموا السنة الى مواسم مسماه (( الخامسة المائة التسعين الثمانين،السبعين الستين الخمسين الظلم الأول ،الظلم الثاني ، عنيبره ،العلب سهيل ،حاديه الحسوم....وغيرها ))..وحفظنا من الأجداد الأمثال والمهاجيل، وكانوا يقولونها عند الإعتناء بالمحاصيل ،فعند البتيل صلب ولا تخلب،وعند الأنقلاب الصيفي وأختلاف هواه( بارق الصيف نداه )وعند دخول سهيل في المقر ،والتحذير من كثرة المطر ( لجاء سهيل وعاد زرعك ما يغطي الثعيل يا ويل أبوك الويل،) وعندما يورقون الذره (لها صرماح أسود لماح مثل الدماح ،ولها نهدين مثل الدلوين تشبع ضمدين ،))وعند الصريب الدخن (اليوم يا لله واليوم دايم قاصرب الدخن والذرة قايم )وغيرها من الأمثال والأقوال كا (من جد وجد ،ومن زرع حصد، ومن إعتنا بطينه جنى،ومن بكر ما ندم،ومن صين غنم،)( أذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذرِ) (أزرع جميلاً ولو في غير موضعه وزآرع الشر منكوس على الرأس) فلما أكمل لسان حالي بث تعبيري ،وأوقف مسيري ،وأكملتُ نزهتي وأنتهيتُ ،وعدتُ الى البيت ،فآليتُ أن أزرع المعروف إينما أويت ،
الأحد، 1 أكتوبر 2017
الأديب/عبدالمجيد محمد عبدالمجيد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق